زورق صغير في يم قلبي






قلبك صغير جداً كحبة خردلٍ خديجة، لا يمكنك أن تعيّ أكثر من ذلك؛ أني أحبك؛ وأن قلبيّ المجريّ يُمهد الطريقَ إليك، ومع ذا تسلو عن نعيمك المُقيم، وتتوه في ضياعك اليوميّ؛ لا يمكنك أن تفهم: صدريّ نابض بك، يشعلُ أسرجته بزيتٍ مستخلص من ذاكرةٍ مملوءة بوجهك، بكلماتك، وبأفعالك التي تجد لها مساحة خالصة في فؤادي. لا يمكنك أن تفهم أكثر من ذلك؛ وإن فعلت فلن تبلغ مكنونك في نفسيّ؛ لأنك شتيت؛ تنتزعك الأيام، وتستخلص منك ما تريد؛ دوماً ما رأيت هذه الخلاصة في أيادٍ ونفوس قشرية، لا تختلفُ كثيراً عن الزوع الموسمية ذات المظهر الأجوف، أو تلك المأكولات التي

تنتهي قبل انتهاء صلاحيتها؛ لأن العالم الشره لا يمكنه تفهم قيمتها، ما دامت أشياء كثيرة قادرة على

القيام بالدور المناط، وهي لا تقوم بأي شيء في الحقيقة إلا أن تكتسب صورةً، ورداء، واسما مُعلباً منتعلاً كحذاء فاخر يستخدم لمرّة واحدة، ثم يرمى به في عرض البحر ليعيش في بيئة أخرى مع الطحالب، والأسماك المّارة خفافاً؛ أمرُ بالعالم كثير من ينتعل الأحذية ومازال حافياً، وكثير من يرتدي بززاً فاخرة وهو عُريان ؛ يطّلع على سوءته كل كائنٍ آخر، بينما العُراة لا يستطيع الآخرون أن ينظروا إليهم، أو يطلعوا على حالهم. هذه الشفافية، تجعلُ جسديّ نافذةً لضوئيّ، لا أرى بالعيون فمذ زمنٍ بعيّد لم أبلغ بغيّر الأفئدة؛ أنا أسمع نبضك، كما أسمع قلبيّ وهو ناطق باسميّ، بهويتي في الوجود، وعندما أزداد استماعاً فأني أصل إلى ذروة النقاء، أن أرى الوجوه تطلع من أضلاعيّ كأغصان التوت، أو كأوراق العنب المُتسلقة، ثم يكون صوتي غير صوتيّ فأسمع به كل صوتٍ نموت منه، وأعود للأرض التي جئت منها، وأعي كائناتٍ وأحداث جديدة؛ ذاكرة سامقة تجد لها تُربة خصبة في جسدي، إنّ عيني لم تعد تراك، ولا أذني قادرة على سماعك مُذ صار قلبيّ الجسر المتين الذي يربط بيننا. قلبيّ يزداد اتساعاً يوماً بعد يوم؛ فهو يتقدم بخطى سريعة حتى تجاوز العالم ومثله كثير غيره، وفي كل شبرٍ يقطعه يضع بذرة من ذاكرته التي تُشكل جزءً منها، فأنت في كل مكانٍ أعرفه؛ فكما ينبتُ وجهك من كتفيّ، وتطلع يديك لتربت عليّ وأنا مندمج بالكتابة، يطّلع من دفاتري وأوراقي، ويرتسم باسماً في كوب قهوتي، بالأغاني، وبالموالات الحزينة التي لا تشدني عادة لكنها تفعل عندما تكتنز بعطرك، بشذاك الذي يجعل للعالم رونقاً يفتتني به. لستُ عاشقاً، لطالما مزقتُ كل رابطةٍ تظهر ضعفي، وأنهيت كل ما أحببته من قلبيّ طوعاً، لطالما ردمتُ طرقاً، ومزقتُ مدناً بيّ؛ أوطاناً مليئة بالكائنات، ولطالما أعدتُ صياغتي من جديد ؛ لأكون ناهضاً بما أنا، لائقاً بما يتوجب عليَّ فعله، فقد كنتُ أردد كثيراً أن عليّ أن أنظر لهذا الكون وما فيه بعينٍ واحدة؛ لكني لم أعد أرى؛ كل العيوب اضمحلت، واختفت الأحداث كأشباحٍ لا تُرى. قلبيّ يمتدُ ليصلك، ثم يعبرك ليزداد في وصلك، يخرجُ منك ليلقاك، ويلقاك في كل ما عداك؛ لأنه أَحبك... ولأنّ حُبه كياناً آخر أكثر جمالاً، حيثُ ترى القلوب وقد خلعت أرديتها، يطلع عليها كل رافلٍ بنعمة الحب. يا عاهل آلام العالمين ، من هذه الأبجدية ظهر شذاك للعالمين، فكل ما قلتَ نابت في قلوبٍ أخرى، ترحلُ عنهم، لكنك باقٍ في حياتهم التي ما كانت بدونك على ما هيّ؛ فلتذهب إلى العزلة؛ إنكَ أكثرُ الواصلين اندماجا. قلبك الصغير زورق في يم قلبيّ، فسبح ما شئت ؛ هذا وطنك العظيم. يا عاهل آلام العالمين، إلى الصمت، يعبر الكلام ليصلَ جسدك العالم، يزور قارتك، فيجدُ ما أقفرَ ظلالاً وخضرةً، وما أزدان زاد في جماله، يظهرُ ذلك عليّك؛ في وجهك الضياء، وفي يدك التي تعبر بالكلمات قلوباً أخرى قرأت لك، وآمنت بما تقول. 

تعليقات