(تدلى صوتي جسدًا جديدًا؛ ومستحثّة شعرٍ وفاكهة)

 



لا أودُ ولا أحجمُ عن الحياةِ التي أعرفُ؛ غير أنّي مددتُ بصري في السماءِ لألقى غسقي، وألم شتاتي وشعثي؛ مرتحلاً لعرشِ الفراغ المزهرِ  واتزودُ بالفراقِ؛ جناحي غُربتي، وقُربي...لم يعد ليّ مرآةٌ أنظرُ  بها عينيّ ماذا أصبحتا اليوم بعد صمتٍ طالَ واليوم يثمر لغةً أخرى في طي اللغةِ. 

 

أعرضُ حياتي على شريط الذكرياتِ، وقد خزنتُ في شَرابي مشاعرَ مختلطة، كل جرعةٍ مِنها تُعطيني جوهرًا آخر فريدًا وكأنّي كائنٌ آخر، ينظرُ حياةً لا أعرفها متسائلاً هل هذا وجهي وجذوتهُ ؟ أهذهِ أعضائي وحرقتها؟ أهذهِ جمارُ عشقي أصبحت بردًا وسلامًا على قلبي؟ أهذا الفراقُ استحال لقاءً مملاً بالكادّ أحمل نفسي عنه، وتسأمُ ذاكرتي من اعادتهِ مرّة جديدة!   إنّي مليءٌ بيّ صورًا وأجسادًا وصوتًا؛ ووجوها أرتديها وواقعًا بملء العينِ، والأبصار.  

 

تشكل اسمي من شجرةِ لُغتي، وأمتدّ ليعبَ صورتها وامتداداتها، متوكأً على صوتي أبحثُ عن جمرة تدلني الطريق، وتتدلى من قلبي قامعةً من كان فيهِ يومًا والآن يحترقُ كما أُحرّق أوراقي ولا ترحلُ كلماتي التي كتبتها... انّي بالبعدِ أجدرُ مِني بالقربِ من كل كائنٍ عداي، وما أن أسمعُ صوتي حتى تدق نواقيس الخطرِ، وتأتي كلماتي وقد أشرعت للدموعِ مجرىً آخر؛ أعرفُ مِن أين أُخذ، من عمقي البعيد وقربي البسيط، وأرى الكائناتَ التي تتلاعبُ بيّ كقطعةٍ شطرنج كيف يموتون كمدًا إذا ما تحركتُ على حين غرةٍ على مالا يشتهون؛ فيقولون أهذا الكائنُ الذي نعرفُ يقوم بقهرنا اليومَ؟ ولستُ بقاهرٍ ولا لاعب.  أغمضتُ عينيّ منذُ زمنٍ بعيدٍ حتى لا أرى حرقةَ الكائناتِ فرأيتُ صدورها في الصمتِ والبعاد؛ وقد وهبتُ ما كنتُ أرغب عنه ملاين المرّات المضاعفة؛ أن أرى ولم أشأ أن أرى سوى قلبي!

 

فريد أن أعودَ ولكنّي لا أعودُ أبدًا حتى إن رجعتُ فقد تبدل جسدي، وتغير صوتي، وذكرياتي نزعت ألوانها، وتبدد شُعوري حتى بقيّ نزرٌ بالكادِ يدلني على الطريق؛ ماشيًا في لجةِ العتمةِ بعيدًا في المعاناةِ التي أصبحت ترياقَ خُلودٍ مبثوثٍ فيما أخطُ وأكتب. أقولُ ويرتدُ صوتي بمسمعٍ مختلف؛ هل آن الوجودُ في البعدِ يا قربًا قد دنى من صدري وتلاشى؟   

 

لا يفهمُ الفراقَ ولا اللقاءَ إلا من عرف نفسهُ فأصبح تقاربُ الأجسادِ وبعدها شكلاً لتحوّل الحياةِ في دواخلنا دونًا عنِ مشاعرنا؛ فإننا نمضي وتمضي بنا الأشياءُ وتمضي مِنها وسعينا إنما يحملُ في طيهِ ولاداتٍ وموت وكذا اللقاءاتُ والفراقات ؛ وها قد قَدمتُ إليّ متوجًا بالسمواتِ التي تُعطر لغتي، وتغدقُ على جسدي بالربيع، وعلى روحي باللقاءِ البديع؛ يا جسد الصباباتِ والنسيان، وموطن الشِعر والزمان، يا عاهل آلام العالمين اسمك الأوّل قد آب إليك بذاكرةٍ شهدٍ حلوة، و صقيعٍ يكشفُ عن حرقةٍ قد فنت وتدلت مِنها الآلامُ جواهرَ حكمةٍ صقيلة فقطف مِن كلامك بديعًا تودع في صدرك الجهاتُ يا سدّة الأيامِ الماضية وجوهر الأيام الحاضرة يا زمان القُبلاتِ الحية، و حضن الجراحاتِ والبُعاد.

 

 يا أيها المطرُ اللغوي قد دانت لك الذاكرةُ العُريانة في يديك تعجنُ مشاهدها، وتقولبُ شخوصها، وتُعاد حكايتها على ما تشتهي؛ فعد إليكَ الوطنَ تترقرقُ مِن عينيك الكواكبُ كلماتٍ وشعرٍ وحياة، يا عاهل آلام العالمين في رحالك الشِعرُ المنبثق، وفي شهابك الحُب المحترق، فاخرج يا طائرَ الجليدِ من عرين الصمتِ إلى عرينِ الكلامِ الخالد وأكتب من جديد؛ تاريخ البُعد السحيق.   

يا سيد الانتهاءاتِ البدايات؛ وربيع الحيوات الأخرى ؛ ها قد أتيتُ إليك لغةً مِن نبع الحُبّ والفراق فاغمس فيها صدرك يثمرُ كواكبًا جديدة، وتلقى عينيك الأولى وقد آبت مِن قعرِ الوجودِ جميلةً ترنو إليك الشهد والكتابة.


تعليقات