لا أدري لماذا بالرغم من
شوقي للكتابة أجد أسباباً تمنعني منها، أختنق بشدة وكأن غرفتي تفرغ من الهواء
شيئاً فشيئاً فيتصعدُ قلمي عني ولا أجد إلا نفساً مثقلة بكل شيء، نفس عجزت عن
التحرك، وعلمت أن الحديث لم يعد يجدي!
.
بتُ أتسأل عن الصور التي
جمعتها و الأخرى التي تطلُ على مخيلتي كل مرّة أُفكر فيها حتى لا أفكر بشيء آخر؛
حتى الأفكار تريد جمعي لها، تراني الشتيت في العالم وهي جزء من جسدي العالم.
لقد رأيتُ كيف أكتب، و
كل ما راقبت ذلك اكتشفت أني أكتب بطرق أخرى لم أتعرفها، الطرق كثيرة لكن وجهي
الساطع عليها واحد، ألهذا الحد أجهلني بمقدار معرفتي كل شيء عني. غصتُ في نفسي، ورأيتُ
صورتي، هذا أنا: الهادئ الذي تتفجر منه بحار السكينة، و يخفت فيه صوته كل مرّة
يعلو فيها.
أنا وحيد، لا يشبهني
أحد، ولا أعرف أحداً غيري ؛ هذه نتيجة حتمية عندما أتسع أكثر تنفتح لي أبواب
العالم و أدخل من صدري أماكن لم تعرف غير وجهي جسداً لها، لم تعرف إلا صوتي
الذي يرتد لي و أرى به ذكرياتٍ غابت فيني..
كيف نسيتُ هذا الدم
المتدفقَ في جسدي، يتراء لي جرحُ السلالة وأنفذُ منه إلى نقاءٍ تطلع منه مشاهد لما
مضى ، كيف يتجسد الماضي أمامي وأرى حقب التاريخ تنسل من صدري لتراها عيني.
ضاع كلامي وبدأت الكتابة
تناديني لأقطع لأجلها المسافات، أضع ورائي كل ما تركتهُ لأسعى إليها، وأبدأ
بالنشأة من جديد، وأبدأ بالكتابة مرة أخرى، أرى ما كان، وأسمع ما مضى .
يتلاشى الماضي أمامي ولا
أرى له أثراً، هكذا أقرر الانسحاب وأحمل نفسي خارج هذه الحدود التي تجهلني ،عائداً
إلي : العاهلُ الذي وعى كل حزنٍ وسبب
السعادة في ظل الشقاء ، كل شيء غابَ ؛ لأطلع ؛ لا كواكبَ غيري، أدور بين مجرات
حُزني وأتفهم أيُ شوق يجلي الديارَ أمامي، وأراها بحلة لم يراها أحد سواي؛ هكذا يحمل
الشوق الفؤاد السهر ، ويحمل هذه اليدَ الكتابة. تطلعُ شمس من يدي جهةَ الشمال لجهة
الجنوب بين طرفي كراستي، وتطلع الحروفُ مع بزغتها ، تنمو سريعاً وأرى مراحل العُمر
فيها ؛ كيفَ تولدُ وتبكي، ثم تحبو وتلعبُ ، ثم تمشي في الأرض ولا تدري بأيِ مكانٍ
هي، ثم كيف تتفتحُ على العالم ، كيف تشبُ ثم تشيبُ ، وربما ماتت ، وولدت أخرى مرات
كثيرة.
في كل يوم جديد أعي
اقترابي من الكائنات وبعدي عنها ، أنا أعرفُ المسافة بيني وبين كل حيٍ ، بيني وبين
كل جمادٍ أو جسد ، لكني أنسى ولا يبقى مني إلا جزء يسير أتعرفه إليه في
الآخرين ؛ كيف أبدو في وجوه أخرى، في أجساد تنمو في صدري، وأسمع لها شهقياً وزفيراً بي.
لا شيء مختلف عما كان
غير إن المكان تبدل لم أعد أرى في الأماكنِ ما يشدني ، كل ما أسمعه هو صوت خطوتي
حين أمشي في تفاصيل هذه المباني التي لم توجد رغم وجودها، مجسمات مفرغة لا غير .
أعودُ للحياة بمكتبي
الجميل ، وأرى وجهاً آخر للعالم الذي يشرقُ من على وجهي، وأتنفسهُ كعطرٍ جميل يسكن
جلدي ويمتد مع امتداده، أمسكُ القلم ، أكتبُ و لا يوقفني شيء، حتى أرى نفسي تتلاشى
وتبدو بين ما كتبتهُ، هذا عاهل آلام العالمين في كل نصٍ يكتبهُ جسدي ؛ جسدي يد
أكتبُ بها ، في كل قصيدة تترعرع في صدور القارئين ، وبي العائد إلى نفسه.
يا عاهل آلام العالمين،
تعبرُ نفسك إليكَ في كل ذكرى تنبعُ من صوتك الحزين، وتنطقُ بك اللغة ، أطلع من
وجهي ، وأتوسدُ فراشي ، أدخلُ فيه، ويفتح لي باب يُصرصر بين ريش النعام، ويدي التي
كتبت غابت في ذكراها، لم أراها لقد اعتزلتني ليتسلل النوم إلي ، أغمضُ عيني ، و
أفيق من نومي قبلَ أن أنام، يهزني النوم ، النوم يريد كتابتي لينامَ .. لم ينم ،
ولم أنم حتى جاء الصباح فأنصرفَ كل منا إلى شأنه ؛ كل للكتابة ينمو ؛ وكل يعيشُ في
سكرةِ الحب، يتفيأ ظل المحبوب وذكراهُ .
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...