١٩،
بعد سهرٍ طويل في أحدِ الأيام الذي استتبع أعمالي بعد منتصف الليل، استوقفتني لافتةٌ مطعمٍ قبيل هبوط الفجر على المدينة، و خلتها فرصةً جيدة أن أكمل نقاشاتي الفلسفية العميقة مع نقرشةِ الفطائر متيبسة الأطراف مع كوبِ عصيرِ برتقالٍ باللب بعد اقتراحِ القبقب زميلي في اقتفاء اثرِ الشوارع آخر الليل التوقف لتناول الأكل وهو الذي لم يأكل شيئًا منذُ البارحة، بعد قضاءه الزمان في النوم.
وكنا ونحنُ ننتظر الطعامَ، كلنٌ مع هاتفهِ يريد أن يحصل نصرًا جديدًا في لعبتهِ ليتباهى بعدد الانتصارات التي احرزها ويحفظ نياشينهِ وتقديراتهِ للشغف مع قليلٍ من أصواتِ مَعِدة القبقب التي تقول هلم إلي بالطعام، وقد توقفنا عن التحدث، أما أنا فأصبحتُ أتأمل جبين القبقب المعقود تركيزًا ليفوز في حربه الاستراتيجة والذي انبسط شيئًا فشيئًا مع خسارته ودس جوالهِ في جيبه.
أتى الطعام وقد اقبلنا إليهِ بلهفةٍ دون أن نعي ما يخفيهِ علينا من التسمم الذي جعلني طريحَ الفراشِ ثلاثة أيامٍ تضرمت فيها معدتي أكثر من صبابةِ عاشقٍ للمحبوبِ، وهي في ذلك كأنما تأكل بعضها بعضًا كما تلتفُ النار لبعضها لتفنيها بضمها… لكننا لم نكن لنعيّ إلا أن أحد تلك الفطائر تمتلكُ مذاقًا فاسدًا، لكني و لأتأكد أنّي لم أتوهم أنها فاسدة قضمتها قضمةٌ أخرى بينما اكتفى القبقب بتناولِ قضمةٍ صغيرة أحالتهُ هو الآخر للفراشِ يومًا ونيّف، راحت أحاديثنا الطويلة تتبخر لتبلغَ السحابة التي تسافر بين البقاع لتهرقَ المطر الذي يتسللُ لأراضٍ كثيرة ويتغلغلُ في تفاصيلها وجذور نخيلها وأعشابها وشجيراتها الأخرى ليصبح كلامنا ساعٍ في نفوسٍ طيبة كثيرة، أنزلت القبقب عند منزلهِ على رملة الشاطئ المحمرة، والضوء يهبطُ عريانًا من كل شيءٍ إلا مسحتهُ الدافئة وبالكادِ تحملني قواي على العودة للمنزل.
وبعد ما تعافى القبقب عاد لي وهو مملوءً نشاطًا وقوةً يحضني فيها على العملِ بجد، وقد استمر توعكي تارةً يأتي وأخرى يخفُ عليّ وفي رزم المواعيد لقاءات كثيرة قد أغلقتها كورونا منذُ أتت وانقض عليها الشوقُ برمتهِ ليشرع أبوابها، ويلوّن نواحيها بالذكرياتِ الحلوة، ويكنسُ عنها الأوهامَ التي منعت تلاقينا حتى أن شجرة الصبار ما زالت على إرجاء عيد ميلادها على حدّ لقاءنا الذي لم يقع بعد!
وأصبحت وأنا أتقلبُ على سريري أتابع لحظاتٍ سنابية تنقلني من المكان للماوراء، أتصفح وجوهًا كما أرى الأحداث التي تنسل بتتابع اللحاظ شيئًا فشيئًا تتلونُ بزهاءٍ عجيب لتقر في قلبي وتسكن… وأسمع في دواخلي أصواتًا لأشجارٍ مديدة تعمرُ مسحةَ النور فيهِ فإذا بشجرة البلوط تزور سوقَ الأشجار في قريتها التي أصبحت مدينةً وتقول ليّ لقد أتيتُ إلى المدينة فوجدتها شاخصةً بالبيان لكنها قد حزمت حقائبها من البعيد البعيد لتسكن جوفي العشّاق، وأصبحت وأنا كاتبٌ أتحضن ذكرياتنا التي تنمو قصائدًا بديعة تُسكر قراءها عن سِوى الهيام.
وها هي شجرةُ الكرز تتابع معي مرّة بعد أخرى حتى نتحصل على لقاءٍ بديع يأخذ بنا للتبصر بالحالِ والمآل، لكنها تصعد مدرج الطائرةِ على أمل لقاءٍ جديد جميل ألتقي فيها بأشجارها الصغيرة، ونجلسُ على هدى النجوم لنكتبَ عن أيامنا الحلوة حينما كنا ندرسُ في الجامعة ونحل الواجبات معنًا ونستذكر…لكن ألم معدتي الغريب قد قضّ حالي وبلغ بي حدًا لا أستطيب معه الانعزال!
ثمّ قلتُ لماذا لا أنهض مما أنا فيهِ، وأترك لجسدي طردَ هذهِ الوجبة الغريبة التي قررت أن تستفز كياني، وتعمل فيهِ التحشيدَ لطردها، فرفع بذلك التأهبَ، فخرجتُ وقد اطلعت السهر من عجزي عن النوم لأنجز بعض الأعمالِ مع عزيزي القبقب، فرأيتُ الرياض بخروجي في الصبحِ الباكر وقد تجمرت وكأن أغسطس قرر أن يفارقنا بقصةٍ لا تنسى أو لعلهُ قررّ أن يأخذ في قيضِ لواهيبه الكورونا التي لم تعد قادرةً على منعِ الكائناتِ من التجمع والالتقاء، فأخذ بحرهِ يجففُ وجهي ويقشره في ظلّ قطعي الكيلو مترات فلم أصلّ إلى اللقاء إلا وأنا محمصٌ قد تركت بي الشمسُ آثارها وأعملت برأسي الدوار، وأستمع إلى أحاديثِ القبقب و أعلّ من قهوتي الحارة التي لم تسطع صبرًا على صُداعي وتضرمُ بطني فأصبحت أحاديثُ القبقب المتحمسِ مقعرةً وتارة مُحدبةً وتارةً يأخذُ بهِ الانبساط على أن يضع أمامي أوراقًا كثيرة ملئها بالمخططات والكتابات والخطط وأنا بالكاد أستطيع الرؤية فقطعت الاجتماع وعدتُ للمنزلِ سريعًا بعد لقاء الشمسِ التي أخذت مِني ما تريد بينما السيارة تقول درجة الحرارة تبلغ الواحدة والخمسون عليك بالايسكريم، وأي بوظة في هذا الطريق الذي لا يفصح عن شيءٍ سواه، بالفعل أغسطس يريد أن يقول كلمته قبل الرحيل.
وصلتُ للمنزلِ و احتسيت بعض الأحاديث العائليةِ على مضضٍ فإذا بنا بخير حيالٍ، ثمّ توجهت لسريري الذي يشير بنعكاس الظل على الساعة الحائطية قائلاً قد حان وقت الهجعة إن الساعة الآن تشير إلى الخامسة والسبعين!
خلعتُ بطني على مضض، وإذا ببيوض القبقب تعتمر باحشائي بلطفٍ، وتكتبُ علّ الحكايةَ مع الكلام الذي اجتمع ليكون جليلاً جميلاً، فمددتُ يدي وغسلتُ الذاكرةَ التي طارت بعيدًا في الفضاء حينما عاد جسدي مرّة جديدة ليعانق الضوء في كلماتهِ، ويتلمسَ في حقولِ أشرعتهِ النثيرة الحياة وقد حملت الحكايات إليهِ بصوت الحُبّ الجميل.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...