أقبضُ علي ذاكرةً تُريد الضياع ، مُغيبًا في فلواتِ نخلِ القريةِ التي تعجنُ في وجهي أسئلة الأمس، تهبُ لي انسكاب مأساتي في تربةِ التحوّلات، وفي قيضٍ قد وصلّ قبل مُدتهِ مُبكرًا. أُصَّرمُ ما جرى، غائبًا في فوهةِ الدوّامة التي تلم اشتاتي إليها فأصير جسدًا في المرايا لا يُرى مِن وحنة الريح يترحلُ. أجسُ السيَّرك، هذهِ الحياةُ التي تستقيم على عودٍ دقيق يكادُ ينكسر، و فيّ شربةُ ماءٍ قد عاقرتها القطط. يبدو لي أن لا ليلةً أخرى سأقضيها هنا، فالأشياءُ المتحوّلة تجعلني أعيشُ الجِدَّة طباقًا، وأحسُ اللغةَ تتدحرجُ مِن صدري وتلون الكائنات التي أرى لتكتبها ولستُ أدري أين أجدني بين الرسم والكتابة، غير أن موسيقى الكلماتِ تُعيدني للمكانِ الذي شاء التفلت ليبقى في دفاتري وبين أوراقي المغناطيسُ الذي يمتصُ الكائنات ويتركُ للكلماتِ صولاتها ذات الرواح.
أراني شيخًا، لكن الأيام و لعشقها لي تأبى أن تدع لآثارها محلاً علي، حدّ أن لا أستطيع التعرف على طينةِ وجهي إلا عندما أُحسه في الوجوهِ الأخرى، وألمسهُ بيدي قلبي، متنقلاً بين الأزمانِ التي تعرفُ حبي لها اقبالاً و تقبيلاً. قد جاوزتُ محلَّةَ هذا الجسدِ الذي يعجنُ بيديهِ ليكون كلامًا، وفي نفسي أدقُ أوتادَ الذاكرةِ المتفلتة جاعلاً النسيانَ لغةً للشعور. صارت القُبل لونًا من الفناءِ اللذة، قربٌ لصيق لابعادٍ حقيق، شيءٌ يأخذ بالقرّب تحولاتهِ القصوى ليكون كائنًا يتحوّل بالالتصاقِ و بالفراقِ آنًا وعملةً تأبى وجوهها الانفكاك.
أرحلُ عبر المدلهماتِ التي تكتبني ببقائها في صدري، متتبعًا الخطوات التي سعيتُ اليها، وتمددّ جسدي عبر الحدودِ مجاوزًا الأجسادَ والعالم للجواهرِ والمعاني؛ إنّي معنى هذه المأساة التي تقتاتُ عليّ لكنها لا تجدُ إلا جسدًا سرابًا لن تصل إليهِ. بُرهةٌ هذا الجسدُ الأحجية، وعبرةٌ هذهِ الكلمات المولودة في دُجى الروح.
ماذا أُسمي نفسي وقد فنيت اسمائي وبقيت؟ وبماذا أجعلُ عمري وقد جاوزتُ حدّ الزمانِ والمكانِ حتى وصلتُ الذروةَ أن أكون العالم وأكون الذرة، أن أكون الفناء وأكون الوجود، وعندما أتحسس بقائي ألمُ إلى دواخلي تكونًا جديدًا للحياةِ والحُبّ .
مِن البعيد، أقرأ قصتي بعيني طفلةٍ ترى القرب مِن والدها الحياة فتستلقي جوارهُ لتكون واياه ذاتًا واحدة، ويغيب هو عن العالمِ ليكون كيانًا آخر عالمًا مِن الوصولِ والاتصال، والحُبّ والتحول. أنادي روحي أن هلمي في أعضائي و انبثي في وجهي دونًا عن الكائناتِ لأكون الجمال الأقصى لغةً وجسدًا وحسًا .
أدعُ البقيةَ لهذا الجسدِ اللغة، متراميًا في أطرافي المتقاربةِ آنًا، وقد آن لها أن تتمشى هوينًا في مداراتِ الفراغ الذي أصبح كلامًا لطيفًا يكتبني. يا عاهل آلام العالمين إنه أسمك الأول قد عاد ولمّا يكن بعد غير اللحظة غرًّا قد حوى وتدلى وسما وكتب وفي يومهِ الأول قد جاوز زمن الخليقة؛ فلن أدع هذا الحزن المعتق حتى يبث في أوصالي المكتوبةِ رحيلاً و تخلقًا في نفوس أخرى. يا عاهل آلام العالمين قد وطِنت في صدر المعنى فهيا بنا للكتابةِ نجاوز حدّ الجسدِ والروح.
تعليقات
إرسال تعليق
علق وجودك بالكلماتِ التي تكتبها لتحيا في رُده الشعور...